المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم
قد بينا أن المعمور في هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال. ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين في الحر والبرد وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلاً. فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب إلى الإعتدال والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان من الإعتدال. والأول والسابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجمبع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة الاعتدال. وسكانها من البشر أعدل أجساما وألواناً وأخلاقاً وأدياناً حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية. وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم. قال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وذلك ليتم القبول لما يأتيهم به الأنبياء من عند الله. وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية. وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير. ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين. ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم. وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين ومن كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة. ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات. وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأول والثاني والسادس والسابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم. فبناؤهم بالطين والقصب وأقواتهم من الذرة والعشب وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوبن مائلة إلى الانحراف. ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات. وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم. حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون العشب وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضاً وكذا الصقالبة. والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك. وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد يقال إنهم دانوا به في المائة السابعة ومثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال. ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً فالدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم: " ويخلق ما لا تعلمون " ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما إليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر. وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص. ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة وليس فيه ذكر السواد وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوانات. وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى فتطول المسامتة عامة الفصول فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر. ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس. شمل سكانهما أيضاً البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرئي العين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها ويشتد البرد عامة الفصول فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة. ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشعور. وتوسطت بينهما الأقاليم الثلاثة: الخامس والرابع والثالث فكان لها في الاعتدال الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر. والرابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التوسط كما قدمناه. فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم وخلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم. وتبعه عن جانبيه الثالث والخامس وإن لم يبلغا غاية التوسط لميل هذا قليلاً إلى الجنوب الحار وهذا قليلاً إلى الشمال البارد إلا أنهما لم ينتهيا إلى الانحراف. وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خلقهم وخلقهم. فالأول والثاني للحر والسواد والسابع والسادس للبرد والبياض. ويسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم الحبشة والزنج والسودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد وإن كان اسم الحبشة مختصاً منهم بمن تجاه مكة واليمن والزنج بمن تجاه بحر الهند. وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام ولا غيره. وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الرابع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام. وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب تسود ألوان أعقابهم. وفي ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء. قال ابن سينا في أرجوزته في الطب: والصقلب اكتسبت البياضا حتى غدت جلودها بضاضا وأما أهل الشمال فلم يسموا باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لوناً لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء. فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التسمية لموافقته واعتياده. ووجدنا سكانه من الترك والصقالبة والطغرغر والخزر واللان والكثير من الإفرنجة ويأجوج ومأجوج أسماء متفرقة وأجيالاً متعددة مسمين بأسماء متنوعة. وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة أهل الاعتدال في خلقهم وخلقهم وسيرهم وكافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرياسات والملك فكانت فيهم النبوات والفلك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة. وأهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم مثل العرب والروم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السند والهند والصين. ولما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب: فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم فتكلفوا في تلك الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصنائع والملل والشرائع والسياسة والملك من ولد سام. وهذا الزعم وإن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد إنما هو إخبار عن الواقع لا أن تسمية أهل الجنوب بالسودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود. وما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط وليس كذلك: فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس ويكون بالجهة والسمة كما للزنج والحبشة والصقالبة والسودان ويكون بالعوائد والشعار والنسب كما للعزب ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصهم ومميزاتهم. فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بإنهما من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولا يجب استمرارها: " سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً " والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم وهو المولى المنعم الرؤوف الرحيم.
المقدمة الرابعة في أثرالهواء في أخلاق البشر
قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر. والسبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميته. ولهذا يجد المنتشي من الفرح السرور ما لا يعبر عنه وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح وتجيء طبيعة الفرح. وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك حدث لهم فرح وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشىء عن السرور. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً ويجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلاً أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة. وقد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول. واعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب حتى إنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم وعامة مآكلهم من أسواقهم. ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم ليدخر قهوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم وللبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء. والله الخلاق العليم. وقد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس ويعقوب بن أسحق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم. وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الأثار في أبدان البشر وأخلاقهم اعلم أن هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد بها الخصب ولا كل سكانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال الطينة ووفور العمران وفيها الأرض الحرة التي لا تنبت زرعاً ولا عشباً بالجملة فسكانها في شظف من العيش: مثل أهل الحجاز وجنوب اليمن ومثل الملثمين من صنهاجة الساكنين بصحراء المغرب وأطراف الرمال فيما بين البربر والسودان فإن هؤلاء يفقدون الحبوب والأدم جملة وإنما أغذيتهم وأقواتهم الألبان واللحوم ومثل العرب أيضاً الجائلين في القفار فإنهم وإن كانوا يأخذون الحبوب والأدم من التلول إلا أن ذلك في الأحايين وتحت ربقة من حاميتها وعلى الإقلال لقلة وجدهم فلا يتوصلون منه إلى سد الخلة أودونها فضلاً عن الرغد والخصب وتجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان وتعوضهم من الحنطة أحسن معاض. وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهل القفار أحسن حالاً في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش: فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات. هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم. فكثير ما بين العرب والبربر فيما وصفناه وبين الملثمين وأهل التلول. يعرف ذلك من خبره والسبب في ذلك واللة أعلم إن كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ عنها بعد أقطارها في غير نسبة ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم كما قلناه وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من ابخرتها الرديئة فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة. واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بوناً بعيداً في صفاء أديمها وحسن رونقها وأشكالها وتناسب أعضائها وحدة مداركها. فالغزال أخو المعز والزرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر والبون بينها ما رأيت. وما ذااك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء. واعتبر ذلك فى الأدميين أيضاً: فإنا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع والضرع والأدم والفواكه يتصف أهلها غالباً بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم. وهذا شأن البربر المنغمسين في الأدم مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هؤلاء أحسن حالاً في عقولهم وجسومهم وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسون في الأدم والبر مع أهل الأندلس وخفة الأجسام وقبول التعليم مالايوجد لغيرهم. وكذا أهل الضواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار. فإن أهل الأمصار وإن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ والتلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرق قوامها وعامة مآكلهم لحوم الضآن والدجاج ولا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم ويخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الرديئة. فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار أهل الأمصار ألطف من جسوم أهل البادية المخشنين في العيش. وكذلك تجد المعودين بالجوع من أهل البادية لافضلات في جسومهم غليظة ولا لطيفة. واعلم أن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتى في حال الدين والعبادة فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن ديناً وإقبالاً على العبادة من أهل الترف والخصب. بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والأمصار لما يعمها من القساوة والغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان والأدم ولباب البر. ويختص وجود العباد والزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي. وكذلك نجد حال أهل المدينة الواحدة في ذلك مختلفاً باختلاف حالها في الترف والخصب. وكذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته من أهل البادية وأهل الحواضر والأمصار إذا نزلت بهم السنون وأخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل برابرة المغرب وأهل مدينة فاس ومصر فيما يبلغنا لا مثل العرب أهل القفر والصحراء ولا مثل أهل بلاد النخل الذين غالب عيشهم التمر ولا مثل أهل إفريقية لهذا العهد الذين غالب عيشهم الشعير والزيت وأهل الأندلس الذين غالب عيشهم الذرة والزيت فإن هؤلاء وإن اخذتهم السنون والمجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك ولا يكثر فيهم الهلاك بالجوع بل ولا يندر. والسبب في ذلك والله أعلم أن المنغمسين في الخصب المتعودين للأدم والسمن خصوصاً تكتسب من ذلك أمعاؤهم رطوبة فوق رطوبتها الأصلية المزاجية حتى تجاوز حدها فإذا خولف بها العادة بقلة الأقوات وفقدان الأدم واستعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعي اليبس والانكماش وهو عضو ضعيف في الغاية فيسرع إليه المرض ويهلك صاحبه دفعة لأنه من المقاتل. فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق. وأما المتعودون للعيمة وترك الأدم والسمن فلا تزال رطوبتهم الأصلية واقفة عند حدها من غير زيادة وهي قابلة لجميع الأغذية الطبيعية فلا يقع في معاهم بتبدل الأغذية يبس ولا انحراف فيسلمون في الغالب من الهلاك الذي يعرض لغيرهم بالخصب وكثرة الأدم في المآكل. وأصل هذا كله أن تعلم أن الأغذية وائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة. فمن عود نفسه غذاء ولاءمه تناوله كان له مألوفاً وصار الخروج عنه والتبدل به داء ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسموم واليتوع وما أفرط في الانحراف. فأما ما وجد فيه التغذي والملاءمة فيصير غذاء مألوفاً بالعادة. فإذا أخذ الإنسان نفسه باستعمال اللبن والبقل عوضاً عن الحنطة حتى صار له ديدناً فقد حصل له ذلك غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك. وكذا من عود نفسه الصبرعلى الجوع والاستغناء عن الطعام كما ينقل عن أهل الرياضات فإنا نسمع عنهم في ذلك أخباراً غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها. والسب في ذلك العادة فإن النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها وطبيعتها لأنها كثيرة التلون فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج والرياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعية لها. وما يتوهمه الأطباء من أن الجوع مهلك فليس على ما يتوهمونه إلا إذا حملت النفس عليه دفعة وقطع عنها الغذاء بالكلية فإنه حينئذ ينحسم المعي ويناله المرض الذي يخشى معه الهلاك. وإذا كان ذلك القدر تدريجاً ورياضة بإقلال الغذاء شيئاً فشيئاً كما يفعله المتصوفة فهو بمعزل عن الهلاك. وهذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة. فإنه إذا رجع به إلى الغذاء الأول دفعة خيف عليه الهلاك وإنما يرجع به كما بدأ في الرياضة بالتدريج. ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوماً وصالاً وأكثر. وحضر أشياخنا بمجلس السلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين وشاع أمرهما ووقع اختبارهما فصح شأنهما واتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتت. ا ورأينا كثيراً من أصحابنا أيضاً من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النهار أو عند الإفطار ويكون ذلك غذاءه واستدام على ذلك خمس عشرة سنة كثير ولا يستنكر ذلك. واعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على منها وأن له أثراً في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها كما قلناه واعتبر بآثار الأغذية التي تحصل عنها في الجسوم. فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك. وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا المتغذون بألبان الإبل ولحومها أيضاً مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل وتنشأ أمعاؤهم أيضاً على نسبة أمعاء الإبل في الصحة والغلظ فلا يطرقها الوهن ولا الضعف ولا ينالها من مضار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه والدرياس والقربيرن ولا ينال أمعاءهم منها ضرر. وهي لو تناولها أهل الحضر الرقيقه أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السمية. ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الأبل واتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون. وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم. وأمثال ذلك كثير فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شك أن للجوع أيضاً آثاراً في الأبدان لأن الضدين على نسبة واحدة في التأثير وعدمه فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم. والله محيط بعلمه.
المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا
اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً فضلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينه وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزاتهم عن النار ويدلونهم على طريق النجاة. وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم. قال صلى الله عليه وسلم " ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني الله ". واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة. وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية. ثم يتنزل إلى المدارك البشرية: إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله. ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقي إليه. قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوحى: " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول ". ويدركه أثناء ذلك من الشدة والغط ما لا يعبر عنه. ففي الحديث: " كان مما يعالج من التنزيل شدة وقالت عائشة: " كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً " وقال تعالى: " إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ". ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون: له رئي أو تابع من الجن. وإنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال: " ومن يضلل الله فما له من هاد ". ومن علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع. وهذا هو معنى العصمة. وكأنه مفطورعلى التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته. وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشياً عليه حتى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئاً من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى أنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة. فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال: " إني اناجي من لا تناجون ". وانظر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت: " إجعلني بينك وبين ثوبك " فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت: " إنه ملك وليس بشيطان " ومعناه إنه لا يقرب النساء. وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر الشياطين وأمثال ذلك. ومن علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف. وقد استدلت خديجة على صدقه صلى الله عليه وسلم بذلك وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه. وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال: بم يأمركم فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال: " إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين ". والعفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة. فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة نبوته ولم يحتج إلى معجزة. فدل على أن ذلك من علامات النبوة. ومن علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب في قومهم. وفي الصحيح: " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وفي رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين وفي مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال: " كيف هو فيكم " قال أبو سفيان: " هو فينا ذو حسب فقال هرقل: والرسل تبعث في أحساب قومها. ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته. ومن علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنما تقع في غير محل قدرتهم. وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف. فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنها واقعة بقدرة الله لا بفعل النبي وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم. وليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بإذن الله وهو أن يستدل بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها على صدقه في مدعاه. فإذا وقعت تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق وتكون دلالتها حينئذ على الصدق قطعية. فالمعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي ولذلك كان التحدي جزءاً منها. وعبارة المتكلمين صفة وهو واحد لأنه معنى الذاتي عندهم. والتحدي هو الفارق بينها وبين الكرامة والسحر إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق فلا وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقاً. وإن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة فإنما هي على الولاية وهي غير النبوة. ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحق وغيره وقوع الخوارق كرامة فراراً من الالتباس بالنبوة عند التحدي بالولاية. وقد أريناك المغايرة بينهما وأنه يتحى بغير مايتحدى به النبي فلا لبس على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً وربما حمل على وأما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من أفعال العباد وأفعالهم معتادة فلا فرق. وأما وقوعها على يد الكاذب تلبيساً فهو محال. أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق والهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهة والهداية ضلالة والتصديق كذباً واستحالت الحقائق وانقلبت صفات النفس وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكناً. وأما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة والهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله. وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي ولو كان في غير محل القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف على الأسباب والشروط الحادثة مستندة أخيراً إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار وأن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين. والنبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك. والخارق عندهم يقع للنبي سواء أكان للتحدي أو لم يكن وهو شاهد بصدقه من حيث دلالتها على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق. فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعية كما هي عند المتكلمين ولا يكون التحدي جزءاً من المعجزة ولم يصح فارقاً لها عن السحر والكرامة. وفارقها عندهم عن السحر أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه والساحر على الضد فأفعاله كلها شر وفي مقاصد الشر. وفارقها عن الكرامة أن خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء والنفوذ في الأجسام الكثيفة وإحياء الموتى وتكليم الملائكة والطيران في الهواء وخوارق الولي دون ذلك كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء. ويأتي النبي بجميع خوارقه ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء. وقد قرر ذلك المتضوفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقنوه عمن أخبرهم. وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم " ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أتيته وحياً أوحي إلي. فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة.
تفسير حقيقة النبوة ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثيرمن المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شأن العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب فنقول: اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته. وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني. وأولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً وهابطاً ويستحيل بعض الأوقات. والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضهما ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها. ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الانسان صاحب الفكر والروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا. ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعة: ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام. فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها وذلك هو النفس المدركة والمحركة. ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها الإدراك والحركة ويتصل بها أيضاً ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضاً وهو عالم الملائكة. فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية الى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه. فلها في الاتصال جهتا العلو والسفل: فهي متصلة بالبدن من أسفل منها ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان. وهذا ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته وقواه بعضها ببعض. ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومفترقة آلات للنفس ولقواها أما الفاعلية فالبطش باليد والمشي بالرجل والكلام باللسان والحركة الكلية بالبدن متدافعاً. وأما المحركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومرتقية إلى القوة العليا منها ومن المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة فقوى لظاهرة بآلاته من السمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن وأوله الحس وهو قةة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال وهي قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط. وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ: مقدمة للأولى ومؤخرة للثانية. ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذئب. والحافظة لإيداع المدركات كلها متخيلة وغير متخيلة وهي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها. وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ: أوله للأولى ومؤخره للأخرى. ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر. وآلته البطن الأوسط من الدماغ وهي القوة التي يقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقل فتحرك النفس بها دائماً لماركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة والاستعداد الذي للبشرية وتخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهة بالملإ الأعلى الروحاني. وتصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية. فهي متحركة دائماً ومتوجهة نحو ذلك. وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك. أصناف النفوس البشرية والنفوس البشرية على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة وترتيب خاص يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن وكلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها وإن فسد فسد ما بعدها. وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني. وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم. وصنف متوجة بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية وهي وجدان كلها لا نطاق لها من مبدئها ولا من منتهاها. وهذه مدارك العلما الأولياء أهل العلوم اللدنية والمعارف الربانية وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ. وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل ويحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة. الوحي وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم فيها ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من لقصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها. فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النةع من الانسلاخ متى شاؤوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة. فلذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه وعاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد. فتارة يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه. وتارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلاً فيكلمه ويعي ما يقوله. والتلقي من الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما ألقي عليه كله كأنة في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلها تقع جميعاً فيظهر كأنها سريعة ولذلك سميت وحياً لأن الوحي في اللغة الإسراع. واعلم أن الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غيرالمرسلين على ما حققوه والثانية وهي حالة تمثل الملك رجلاً يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت أكمل من الأولى. وهذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام وقال وكيف يأتيك الوحي فقال: " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الإتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية بالسمع وصعب ما سواه. وعندما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها وخصوصاً الأوضح منها وهو إدراك البصر. وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع ومثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد. واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة وشدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى: " إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " وقالت عائشة: " كان مما يعاني من التنزيل شدة وقالت: " كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً ". ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف. وسبب ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر. وهذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله: " فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء وكذا ثانية وثالثة " كما في الحديث. وقد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله. ولذلك كان تنزل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة. وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك وأنها نزلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت وينزل الباقي في حين آخر. وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين وهي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن والذاريات والمدثر والضحى والفلق وأمثالها. واعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي والمدني من السور والآيات. والله المرشد للصواب. هذا محصل أمر النبوة. الكهانة وأما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية. وذلك أنه وقد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاماً اوحركة ولا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشريه إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر. وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطي التقسيم العقلي وإن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه وشتان مابينهما. فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته حركتها الفكرية بالإردة عندما يبعثها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة لها بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له. وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة. ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات. ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذاً تاماً أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائماً. ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان. وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعاً ولا يكون موثوقاً به. وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويهاً على السائلين. وأصحاب هذا السجع هم المخصصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثله: " هذا من سجع الكهان ". فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة. وقد قال لابن صياد حين سأله كاشفاً عن حاله بالأخبار: كيف يأتيك هذا الأمر قال: يأتيني صادقاً وكاذباً فقال: خلط عليك الأمر! يعني أن النبوة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي. والكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه والتبست بالإدراك الذي توجه إليه فصار مختلطاً بها وطرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبوة. وإنما قلنا أن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخف من سائر المغيبات من المرئيات والمسموعات. وتدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال والإدراك والبعد فيه عن العجز بعض الشيء. وقد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبوة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة وأن ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن والكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ. ولا يقوم من ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضاً كما قررناه. وأيضاً فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك. وأيضاً فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور ويذهب. وقد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبوة ثم تنقطع وهكذا مع كل نبوة وقعت لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النبوة التي دل عليها ونقض ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة وهو معنى الكاهن على ما قررناه. فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص ويقتضي وجود الكاهن إما واحداً أو متعدداً. فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله وانقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة فلايوجد منها شيء بعد. وهذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره وهو غير مسلم. فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئة الخاصة ولو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئاً لا أنه يقتضي ذلك الأثر ناقصا كما قالوه. ثم أن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة كما لكل إنسان من أمر النوم. ومعقولية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم. ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ وكذا وقع لابن صياد ولمسيلمة وغيرهم. فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان. الرؤيا وأما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها. وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلطه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير وقد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال. والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة مستكملة ومداركه حتى تصيرذاتها تعقلاً محضاً ويكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية. إلا أن نوعها في الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره. فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن: ومنه خاص كالذي للأولياء ومنه عام للبشر على العموم وهو أمر الرؤيا. وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي وهو عندما يعرج على المدارك البدنية ويقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً وإن كان حال النوم أدون منه بكثير. فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وفي رواية ثلاثة وأربعين وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه وهو للتكثير عند العرب. وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستة وأربعين من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين فكلام بعيد من التحقي. لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاماً في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة. ففطر اللة البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني وهو بخار لطيف مركزه بالتجوبف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره. وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة وسائر الأفعال البدنية. ويرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده وتت أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري وهي متعلقة به لما اقتضتة حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية صار محلا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته. وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس وإدراك بالباطن بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية كانت معرضة للوسن والفشل بما يدركها من التعب والكلال وتغشى الروح بكثرة التصرف. فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن وتذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيعة مركبها وهو الروح الحيواني إلى الباطن. ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل. فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ورجع إلى القوى الباطنة وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة تمثل منها بالتركيب والتحليل صور خيالية وأكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً. ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية مع منازعتها القوى الباطنية فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ. ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة. والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان ". وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه: فالجلي من الله والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك وأضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل والشيطان ينبوع الباطل. هذه حقيقة الرؤيا وما يسببها ويشيعها من النوم وهي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كل واحد من الأناسي رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة وحصل له على القطع أن النفس مدركه للغيب في النوم ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال لأن الذات المدركة واحدة وخواصها عامة في كل حال. والله الهادي إلى الحق بمنه وفضله.
الإخبار بالمغيبات ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً
إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه وإنما تكون النفس متشوفة لذلك الشيء فيقع لها بتلك اللمحة في النوم لا أنها تقصد إلى ذلك فتراه. وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرياضات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه ويسمونها الحالومية. وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام وهو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر وصحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية وهي تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس ويذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم. وحكي أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره فتمثل له شخص يقول له أنا طباعك التام فسأله وأخبره عما كان يتشوف إليه. وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة واطلعت بها على أمور كنت أتشوف إليها من أحوالي. وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها وإنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب ولا يكون دليلاً على إيقاع المستعد له. فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك وتدبره فيما تجد من أمثاله. والله الحكيم الخبير.
فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها
بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلون عليه بأثرمن النجوم ولا غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزجر في الطير والسباع وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها ولا إنكارها. وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها. وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب. وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. ونحن الآن نتكلم على هذه الإدراكات كلها ونبتدىء منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها. ونقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الإنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها. وذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة من بين سائر الروحانيات كما ذكرناه قبل وإنما تخرج من القوة إلى الفعل بالبدن وأحواله. وهذا أمر مدرك لكل أحد. وكل ما بالقوة فله مادة وصورة. وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك والتعقل. فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك وقبول الصور الكلية والجزئية. ثم يتم نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بوررود مدركاتها المحسوسة عليها وما تنترع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك والتعقل بالفعل فتتم ذاتها وتبقى النفس كالهيولى والصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة. ولذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف بغيرهما. وذلك لأن صورتها التي هي عين ذاتها وهو الإدراك والتعقل لم يتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات. ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك: إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وبشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولاً من الإدراك الجسماني. وربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة: إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطرق أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية. فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملإ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الإتصال في الوجود كما قررناه قبل. وتلك الذوات روحانية وهي إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مر. فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علوماً. وربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه: فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطرق بالحصى والنوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها فى نوع واحد منها وأشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك. بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمائم يتمثل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه. وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال وإنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك وهو نفساني ليس من إدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف. ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك. وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبر كما أدرك ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة. وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين. والعالم أبو الغرائب. وأما الزجر وهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أومسموع. وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً بما رأه أو سمعه فيؤديه ذلك إلى إدراك ما كما تفعله القوة المتخيلة في النوم وعند ركود الحواس إذ تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته وتجمعه مع ما عقلتة فيكون عنها الرؤيا. وأما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد أمزجتهم غالباً وضعف الروح الحيواني فيها فتكون نفسه غيرمستغرقة في الحواس ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه وربما زاحمها على التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط. فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن حسه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال. وربما نطق على لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق. وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنه لا يحصل لهم الاتصال وإن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه. ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتصال فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه ويأخذون فيه بالظن والتخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادئ ذلك الاتصال والإدراك ويدعون بذلك معرفة الغيب وليس منه على الحقيقة. هذا تحصيل هذه الأمور. وقد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب فما صادف تحقيقاً ولا إصابة. ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله. وهذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر. فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم. وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك. واشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار وسطيح بن مازن بن غسان وكان يدرج كما يدرج الثوب ولا عظم فيه إلا الجمجمة. ومن مشهور الحكايات عنهما تأوبل رؤيا ربيعة بن مضر وما أخبراه به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النبوة المحمدية في قريش ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس. وهذه كلها مشهورة. وكذلك العرافون كان فى العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم قال: فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيب وقال الآخر: جعلت لعراف اليمامة حكمه وعراف نجد إن هما شفياني وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة وعراف نجد الأبلق الأسدي. ومن هذه المدارك الغبية ما يصدر لبعض الناس عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد. ولا يقع ذلك إلا في مبادئ النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختيار في الكلام فيتكلم كأنه مجبور على النطق وغايته أن يسمعه ويفهمه. وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنهم قتلوا من سجونهم أشخاصا ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أن آدمياً إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يوماً يغذى بالتين والجوز حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق وشؤون رأسه فيخرج من ذلك الدهن فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة. وهذا فعل من مناكير أفعال السحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني. ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها. ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع. ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلعت النفس على ذاتها وعالمها. فيحاولون ذلك بالاكتساب ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده وتطلع النفس على المغيبات. ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم. وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً خصوصاً بلاد الهند. ويسمون هنالك الحوكية ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة والأخبار عنهم في ذلك غريبة. وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة. لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله وإذا عريت عن الذكر كانت شيطانية. وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أول الأمر لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك. قال بعضهم: " من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ". فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه. وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالغرض وغير مقصود لهم. وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنما يريد الله لذاته لا لغيره. وحصول ذلك لهم معروف. ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفاً وما يقع لهم من التصرف كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم. وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وأبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها. والمعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن فيكم محدثين وإن منهم عمر ". وقد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه: " يا سارية! الجبل ". وهو سارية بن زنيم كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات وتورط مع المشركين في معترك وهم بالانهزام وكان بقربه جبل يتجهز إليه فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه: " يا سارية! الجبل " وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصة معروفة. ووقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة. فقال في سياق كلامه: " وإنما هما أخواك وأختاك فقالت: " إنما هي أسماء فمن الأخرى فقال: إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية " فكانت جارية. وقع في الموطأ في باب ما لا يجوز من النحل. ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصالحين وأهل الاقتداء. إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي حتى أنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها. والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحق.